كان هذا القرار تتويجا لرحلة طويلة مرهقة بدأت في التسعينيات، تعاونت فيها “جونسون” مع شركة “DEKA” التقنية لتطوير الجهاز الذي اعتبرت أنه سيقلب موازين اللعبة تماما في عالم الكراسي المتحرّكة. جهـاز الـ “آيبوت” (iBOT) هو كرسي متحرك طبي علاجي جديد له مزايا مدهشة إذا ما قورن بالكراسي المتحركة الأخرى التقليدية التي تغمر الأسواق. يستطيع الكرسي أن يتسلق الدرجات، ويستطيع أن يتحرّك فوق أرضية غير مستوية، ويصعد الحواجز، ويستطيع أيضا أن يرتفع لأعلى بحيث يجعل المريض على مستوى عين الواقف أمامه. باختصار، كرسي متحرك مبدع بكل ما تحمله الكلمة.
عملت “جونسون” بمنتهى الجدية على إنجاح هذا الجهاز، وقامت بتوظيف طاقتها لمدة 8 سنوات كاملة بتمويلات ضخمة لا تقل عن 50 مليون دولار، وقامت بخلق شركة جديدة مسؤولة عن إنتاج ومتابعة وإدارة مبيعات الكرسي الجديد. وبالفعل دخل في الخدمة بدءا من عام 2003، بعد سنوات طويلة من طرح نماذج تطويرية له في التسعينيات.
ماذا كانت النتيجة؟ صدمة غير متوقعة. الجهاز العبقري المنتظر الذي أهدرت “جونسون” جهدا ووقتا ومالا طائلا، وراهنت عليه باعتباره أحد منتجـاتها الرائدة الجديدة أخفق إخفاقا ذريعا في الأسواق، حيث لم يحقق مبيعات سوى عدة مئات من الكراسي كل عام. (1، 2)
هل كان هذا المنتج يستحق كل هذا الجهد وهذه الأموال التي أنفقت عليه؟ الصورة الخارجيـة تقول “نعم” بلا شك، منتج مميز يقدم قيمة ثورية كبيـرة بالنسبة للعمـلاء. ولكن يبدو أن “التفاصيل” الدقيقة تروي قصة مختلفة، يمكنها لاحقا -في نهاية التقرير- أن تفسر لنا لماذا فشل هذا المنتج رغم ما يبدو عليه من عبقرية.
لماذا تفشـل المنتجات المميزة أحيانا؟
لنتفق أولا أن ظاهـرة فشل المنتجات المميزة ليست ظاهرة جديدة، بل هي واحدة من أسوأ الكوابيس التي تطـارد أصحاب الشركات وروّاد الأعمال. المنتج ممتاز، يقدم قيمة مضافة عبقرية في سوق المفترض أنه متعطّش تماما لهذه النوعية من المنتجات. يتم تصميم المنتج على أفضل وجه ممكن، ويتم اختباره عدة مرات، ثم في النهاية يُطرح في السوق لتكون الصدمة الكبـرى: فشل المنتج بكل ما فيه من مزايا.
لماذا فشلت “نظـارة غوغل” (Google Glass) مثلا بالرغم من أنها كانت من أفضل منتجات غوغل على الإطلاق؟ لماذا فشل نظام “ويندوز فون” رغم أنه كان مليئا بالمزايا؟ لماذا فشل جهاز مايكروسوفت زون رغم كل ما يقدمه؟ أين ذهب منتج “فيسبوك هوم” (Facebook Home) رغم أن المؤشرات كلها كانت تقول إنها ستكون ضربة معلم كبرى لفيسبوك؟ أين ذهبت العوالم الافتراضية “الحياة الثانية” (Second Life) التي كانت صيحة كبرى في الإنترنت في نهاية العقد الأول من العشـرينيات؟ (3)
الأسباب كثيرة ومتعددة، لكن أحد أهم الأسباب الشاملة لفشل بعض المنتجات ونجاح بعضها الآخر هو ما يسمى بالتوازن بين “مزايا المنتج” وما يحتاجه “السوق” فعلا. الأمر لا يتعلّق فقط بجودة المنتج وإبهاره وكفاءته وتلبيته لاحتياجات السوق، وإنما يتعلّق بأبعاد أخرى متعددة يجب تحقيق التوازن فيها -بقدر الإمكـان- حتى يُكتب للمنتج النجـاح.
الخريطة الأساسيـة لنجــاح أو فشل أي منتج
في كتاب “إبداع ابتكـارات خارقة” (Creating a breakthrough innovations) الصادر من مطبوعات هارفارد لإدارة الأعمال، يطرح الإداري “إيريك مانكيـن” في إحدى مقالات الكتاب بعنـوان: “هل تستطيع تحديد الرابح الأكيد؟” خريطة مبسّطة مكوّنة من أربعة أساسيات تتيح الفرصة للشركات وروّاد الأعمال لتوقع مدى احتمال نجاح أو فشل المنتج وهو في مرحلة التطوير قبل حتى طرحه في الأسواق. هذه الخريطة -باختصار- تساعد على التنبؤ بمستقبل كل منتج أو خدمة قبل تفعيلها. (4، 5)
تنقسم هذه الأساسيات الأربعـة إلى جانبين: إيجاد محفزات الشراء، وإزالة عوائق الشراء. بمعنى أكثر وضوحا: أي منتج أو خدمة يتم طرحها يجب أن تتفوق تفوّقا كاملا في الآتي:
أولا: توفيـر محفّزات الشراء
أ – ينبغي أن يكون المنتج أقل تكلفة من المنتجات الموجودة بالفعل (سعره أقل مما هو موجود في السوق من منتجات).
ب – ينبغي أن يقدم المنتج مواصفات أفضل من المنتجات الموجودة بالفعل (منفعـة أكبر).
الثـاني: إزالة عوائق الشراء
أ – يجب أن يكون المنتج سهل الاستخدام.
ب – يجب أن يكون المنتج متوافرا بشكل دائم (سهل الشراء).
يمكن القول إن العميل الذي يرى منتجك ويدرك أن الشروط الأربعة تنطبق عليه بأفضل شكل ممكن -بالنسبة له- حتما سيُقبل على شراء المنتج، ببساطة لأنه يقدم للعميل فوائد مطلقة ولا يوجد هناك حواجز أو مضايقات تمنع من الشراء. وكلما استطاع المنتج أو الخدمة تحقيق الأبعاد الأربعة كلها كانت فرصة نجـاحه أكبر.
كما يوضح الرسم، الهدف الذي يجب أن يسعى له كل صاحب منتج أو خدمة أن يملأ المنطقة المظللة المشتركة بين الأبعاد الأربعة -بقدر الإمكـان-. بمعنى آخر، أن يكون حريصا على أن يتمدد منتجه أو خدمته ما بين مناطق “السعر الأقل، المنفعة الأكبر، الاستخدام السهل، وسهولة البيع”. كلمـا استطـاع المنتج أو الخدمة تغطيـة مساحة أكبر من هذه المنطقة المظللة كان أقدر على تحقيق الربح المؤكد.
“بروكتر أند غامبل” فعلتها بالشكل الصحيح
في عام 2001 بدأت شركة “بروكتر أند غامبل” (P&G) بطرح منتجها الجديد الذي قامت بالاستحواذ عليه في مطلع الألفية، وهو إنتـاج فرشاة الأسنان الكهـربائية “كريست سبين براش” (Crest spinbrush). حققت الفرشاة نجاحا مدويا في الأسواق لدرجة أنها في غضون عام واحد أصبحت أفضل فرشاة أسنان مبيعا في الولايات المتحدة بحلول عام 2002. ثم لاحقا، وبعد عامين اثنين من إنتـاجها، توسّع المنتج في السوق الأميركي والعالمي ليحقق مبيعـات قدرها 200 مليون دولار.
لماذا نجحت فرشاة الأسنان هذه بالتحديد على الرغم من أن السوق الأميـركي كان يشهد أيضا منافسة تقوم على أثرها شركات أخرى بتطوير فرشاة أسنان كهـربائية بمواصفات جيدة جدا؟
عند دراسة سبب نجـاح هذا المنتج بناء على الأبعاد الأربعة للنموذج الرابح الأكيد على منتج “كريست سبين براش” (Crest Spin brush) كانت تفاصيله كالآتي:
أولا: السعــر الأقل
باعتباره العنصر الأوّل المحرّض على الشراء، لا شك أن “بروكتر أند غامبل” (P&G) ضربت بشكل ممتاز على هذا القطاع. ففي الوقت الذي كانت فُرَش الأسنان الكهربائية الموجودة في السوق تباع بمتوسط سعر 50 دولارا، فاجأت الشركة الجميع بأنها تطرح منتجها بمتوسط 5 دولارات فقط. وبالتالي جذبت أنظـار الشريحة الأكبر من المستخدمين لفحص هذا المنتج الجديد بعيدا عن المنتجات الأخرى التي تحلّق في السماء بأسعار مرتفعة.
ثانيا: المنفعـة الأكبر
تقدم الفرشاة نفس ما تقدمه أي فرشاة أسنان أخرى في تنظيف الأسنان، لا تقدم شيئا جديدا خاصا بتنظيف الأسنان، ولكنها في المقابل تقدم منفعـة أكبر في إراحة يد المستخدم من تحريك يده بشكل مرهق.
ثالثا: سهولة الاستخدام
فرشاة “سبين كريست” تميّزت بمظهر أفضل قطعا، وتعمل ببطاريات قابلة للتبديل بسهولة، تصميمها مريح وبطـاريتها قوية، مما جعلها فرشاة الأسنان الأسهل من حيث الاستخدام مقارنة بالفُرَش الأخرى.
رابعا: سهولة البيع
كرّست شركة “بروكتر أند غامبل” (P&G) قدراتها الهائلة في التسويق والبيع بحيث وفّرت هذه الفرشاة في كل مكان تقريبا يخطر ببال المشتري. كما أتاحت للمستخدمين فرصة لتجريب المنتج قبل شرائه، حيث تمكّن العملاء من تجربة بطارية الفرشاة ورؤيتها وهي تعمل داخل المتجر للاطمئنان إلى قوة المنتج وجديته.
على ضوء هذه الأبعاد الأربعة التي قامت الشركة بتحقيقها بأفضل طريقة ممكنة، كان من الطبيعي أن يحقق المنتج نسب نجاح مرتفعة جدا في الأسواق، حيث امتلأت المساحة المشتـركة بين الأبعاد الأربعة بأكبر شكل ممكن.
لماذا فشل منتج “جونسون أند جونسون” إذن؟
نعود أدراجنا مرة أخرى إلى منتج الكرسي الطبي المتحرك “آيبوت” الذي طوّرته “جونسـون أند جونسون” وانتهى -على الرغم من مميزاته الخارقة- إلى فشل ذريع حيث لم يتم بيع سوى عدة مئات من الجهاز سنويا. هذه المرة الأمر لم يعد لغزا إذا تمت معالجته على ضوء نموذج الأبعاد الأربعة الرئيسة التي تم الإشارة إليها كنموذج للرابح الأكيد لأي منتج أو خدمة.
بالنظـر إلى نموذج المنتج “آيبوت” (iBOT) المتحرك من زاوية خريطة المزايا الأربعة اللازم توافرها في أي منتج نجد الآتي:
العنصر الأول: السعــر الأقل
لم تطرح “جونسون أند جونسون” منتجها بسعر أقل عن المنتجات الموجودة سابقا في السوق، أو على الأقل سعر منافس. الواقع أن العكس هو ما حدث؛ حيث عرض “آيبوت” بسعر أعلى بعشـرة أضعاف سعر المنتجات المنافسة الموجودة في السوق أصلا. عرض كرسي “آيبوت” للبيع بسعر يتراوح ما بين 25 ألف إلى 29 ألف دولار، بينما كانت أسعار الكراسي المتحركة الجيدة التي تضم صفات تقنية مواتية تتراوح ما بين 1500 دولار على الأقل إلى 10 آلاف دولار على الأكثر.
العنصـر الثاني: المنفعـة الأكبر
نعم، فوائد كرسي “آيبوت” المتحرك كبيرة وممتازة قطعا مقارنة مع الكراسي الطبية المتحركة الأخرى. لكن، وطالما الأمر دائما يظهر بالمقارنة، ساد بين مُجرّبي الكرسي بعض الآراء السلبية. نعم الكرسي يقدم صفات ممتازة لا يمكن أن تقدمها الكراسي المشابهة، ولكنه ليس عمليا طوال الوقت. كبير الحجم، لا يمكن وضعه في سيارة صغيرة مثلا، وبالتالي هو مقتصر على الاستخدام لمن يملكون سيارات كبيرة فقط أو من يملكون مساحات مناسبة لاستخدامه. بمعنى آخر، الكرسي بحد ذاته ممتاز في صفاته، ولكن هذه الصفات لن يستطيع جميع العملاء الاستفادة منها.
العنصر الثالث: سهل الاستخدام
المقعد يتطلب تدريبا مكثفا للمستخدمين حتى يمكنهم استخدامه بشكل صحيح، وتكاليف تشغيله مرتفعة إلى حد ما. كمـا أنه غير مناسب لجميع مستخدمي الكراسي المتحركة، ويتطلب استخدام يد واحدة لتشغيل الكرسي، وبالتالي قد لا يكون مناسبا لمختلف شرائح المرضى، ويحتاج إلى توصية من طبيب.
العنصر الرابع: سهولة البيع
عملت “جونسـون أند جونسون” على أن تكرّس أذرعها التسويقية في توفير المنتج وتوزيعه بشكل جيد في الولايات المتحدة عبر الصيدليات وأماكن البيع المختلفة.
وكما كان من الطبيعي نجـاح فرشاة “كريست سبين برش” لملئها المساحة الكبرى للأبعاد الأربعة الأساسية للربح، كان أيضا من الطبيعي أن يحقق كرسي “آيبوت” الذي طوّرته “جونسون أند جونسون” الفشل الذريع على الرغم من الملايين الهائلة التي تم إنفاقها على تطويره واستخراج رخصه وحملات تسويقه الكبيـرة.
هل منتجك/خدمتك يتوافقان مع هذا النموذج؟
من الضروري أن تتم دراسة أي منتج أو خدمة وفقا لمعايير مختلفة قبل طرحها في السوق، وليس فقط وفقا لكونه منتجا ثوريا أو يحمل مواصفات ممتازة قد تحقق اختراقا في السوق. حتى لو كان المنتج ثوريا بهذا الشكل، فلعبـة السوق لديها أوراق أكثر وأعقد بكثير من حصـر نجاح المنتجات والخدمـات على مواصفاته.
يمكن القول إن نموذج الرابح الأكيد بعنـاصره الأساسية الأربعة هو أسهل النماذج القياسية التي يمكن دراسة المنتجات والخدمات بناء عليها، قبل حتى طرحها في الأسواق. كقـاعدة، من الضروري أن تركز الشركة على محاولة تغطية أكبر مساحة شاملة للعناصر الأربعة، مع التركيز على “محفزات الشراء” التي تشمل السعر والمنفعة، ربما بشكل أكبر من “إزالة عوائقه” التي تشمل سهولة الشراء والاستخدام.
في النهاية، طرح أي منتج أو خدمة جديدة في الأسواق بواسطة شركة كبيرة أو متوسطة أو ناشئة هو في النهاية تحدٍّ له خصائصه وظروفه وطرق التعامل الخاصة معه. التخطيط الجيد لمواصفات المنتج الفنية وسعـره وسهولة استعمـاله وتوافره في الأسواق يعني في النهايـة رفع فرص نجـاحه وتحركه الحثيث إلى خانة الربح المؤكد.